الحمد
لله وكفى وصلاةً وسلاماً على المصطفى وبعد :
قال
تعالى ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و لا
يحرمون ما حرم الله و رسوله و لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب
حتى يعطوا
الجزية عن يد وهم صاغرون ) التوبة : 29 . الفهم الخاطئ للآية : أن
بعض المستشرقين
أثاروا شبهات حول الجزية , و فهموها على غير وجهها , و اتهموا عدل الاسلام
و سماحته , و قالوا : هل التسامح الاسلامى اذلال أهل الكتاب , و أخذ
الجزية منهم
ظلما و عدوانا , مع ذلتهم و صغارهم ؟ أليس هذا تضييق على الذميين منبعثا
عن تعصب
أو عن بغضاء ؟ انها فى - نظرهم - ضريبة ذل و هوان , و عقوبة فرضت عليهم
مقابل الامتناع
عن الاسلام !! و زيادة فى الايضاح , و دفعا للشبهة , و ردا لهذة
الفرية , و
تبيانا للحقيقة
أقول : ما الجزية ؟ و لماذا فرضت ؟ و متى
فرضت ؟ و ما معنى الصغار
فى الآية ؟
أ-
الجزية
من جزى يجزى , اذا كافأ عما أسدى اليه , و هى مال
يدفعه أهل الكتاب , و من يلحق بهم , الى المسلمين مقابل حق أو خدمة أو
واجب يقوم
به الطرف الأخر
ب-
. ب- لماذا
فرضت ؟ ذلك أن أهل الكتاب هم جزء من الدولة الاسلامية
, يعيشون فى كنفها , و يستمتعون بخيراتها , و الدولة الاسلامية عليها
أن تكفل
لهم الحماية و الأمن و سبل المعيشة الكريمة . فضلا عن أن المسلم يقوم
بواجب الجهاد
, دفاعا عن البلاد , فالجزية جزاء حمايتهم و كفايتهم , فهم يكفون
مؤنة القتال
مع المسلم , فالدولة الاسلامية لها حدود و ثغرات , و تحتاج الى
مقاتلين يدافعون
عنها و يحافظون على حدودها , و يؤمنون أهلها , و الذى يقوم بهذا الدور
انما هم
المسلمون , لأنهم يؤمنون بمبدأ دولتهم , و يعلمون أن الجهاد فرض عليهم ,
و يعلمون
ما للجهاد من فضل يزيد عن أجر صائم النهار و قائم الليل , فهم يجاهدون
عن عقيدة
, و ليس ثمة شئ من هذا لدى أهل الكتاب , لذا لا يجبرهم الاسلام على
أن يقاتلوا
مع المسلمين , و كيف يجبر الاسلام أناسا يحملون أرواحهم على أكفهم فى
سبيل دين
لا يؤمنون به , و بمبادئ لا يعتنقونها ؟!! و من ثم خفف عنهم عبء القتال
بأنفسهم , فبقى
المقابل أن يقدموا شيئا من أموالهم فى سبيل حماية الدولة التى يعيشون
فى كنفها
و ظلالها . هذا .. و يوم أن تتاح الفرصة لأهل الكتاب أن يقاتلوا مع
المسلمين , فاذا
الجزية تسقط عنهم , لأنها شرعت فى مقابل الدفاع عنهم , فيوم أن يقوموا
بواجب الدفاع
عن أنفسهم مع الدولة الاسلامية الكبرى التى يعيشون فى ظلالها , فان
الجزية تسقط
عنهم . كما أنه من أسباب فرض الجزية على أهل الكتاب تحقيق العدل بين
أفراد الدولة
الاسلامية , مسلمين و غير مسلمين , اذ تقدم لهم الدولة الامتيازات
المطلوبة للحماية
و الخدمة و سبل الحياة الكريمة فهى تفرض على المسلمين أن يقدموا الزكاة ,
و على
الذين أعطوا من أرضها أن يقدموا الخراج , و أما الذين لم تفرض عليهم الزكاة ,
و لم
يجب فى حقهم الخراج , أن يعطوا الجزية . اذا كما أنه مفروض على المسلم أن
يزكى , فمفروض
على أهل الكتاب أن يعطوا الجزية . فلما كانت الزكاة عبادة و قربى الى
الله - عز و
جل - لا تصح الا من مسلم , كان البديل عن الزكاة فى حق أهل الكتاب هو
اعطاء الجزية
ت-
. ج - متى
فرضت ؟ يعترف أحد كبار النصارى , المدعو " جورجى زيدان " بأن
الجزية ليست من محدثات الاسلام , بل هى قديمة من أول عهد التمدن القديم , و
قد وضعها
يونان أثينا على سكان سواحل آسيا الصغرى حوالي القرن الخامس قبل
الميلاد , مقابل
حمايتهم من هجمات الفينيقين , و فينيقية يومئذ من أعمال الفرس , فهان
على سكان
تلك السواحل دفع المال فى مقابل حماية الرؤوس . و الرومان وضعوا الجزية
على الأمم
التى اخضعوها , و كانت أكثر بكثير مما وضعه المسلمون بعدئذ , فان الرومان
لما فتحوا
( فرنسا ) وضعوا على كل واحد من أهلها جزية يختلف مقدارها ما بين 9
جنيهات , و 15
جنيها فى السنة , أو نحو سبعة أضعاف جزية المسلمين . و كانت تؤخذ من
الأشراف , عنهم
و عن عبيدهم و خدمهم . و كان الفرس أيضا يجبون الجزية من رعاياهم . (
تاريخ التمدن
الاسلامى , جورجى زيدان , ج 11 - بتصرف - )
ث-
فماذا عن الجزية فى
الاسلام ؟ لقد
كان النبى يقدرها بحسب الأحوال , و على مقتضى التراضى الذى كان يقع
بين المسلمين
و أعدائهم ... في الوقت الذى لا يؤخذ شئ من النساء و الصبيان , و لا
من أهل
العاهات , فلا تؤخذ من مجنون , و لا من مريض مرضا غالبا , و لا من كبير فى
السن , و لا
من عبد , و لا من الرهبان و نحوهم . و كثيرا ما كانت تقدر الجزية باعتبار
ما يبقى
فى أيدى الناس من دخلهم بعد نفقاتهم ... و جاء فى حديث النبى ما يقدر
قيمتها ( أن
على كل حالم ( بالغ ) دينارا )( أخرجه أبو داود فى الزكاة ( 1576 ) و
الترمذى ( 623 ) و
النسائى فى الزكاة ( 2449 ) و ابن ماجة فى الزكاة ( 1803 ) ) , أو عدل
ذلك . و
قيمة الجزية يمكن أن تختلف باختلاف الأزمنة و الأمكنة , و الأشخاص و
الأحوال , و
الأمر فى ذلك واسع , و لكن شرطها يجب ألا يكلف أحد فوق طاقته , و قد يكون
الدينار فوق
طاقة البعض , بل ان الفقير منهم اذا احتاج يعطى من سهم المؤلفة قلوبهم ,
كى يعيش
معيشة تتوافر فيها كفايته , كما
فعل عمر بن الخطاب مع اليهودى المسن الأعمى - اذ رآه
يتكفف الناس , فسأله : مالك , قال ليس لى مال , و ان الجزية تؤخذ
منى -
و
فى رواية قال
: من أى أهل الكتاب أنت ؟ فقال : يهودى , قال : فما ألجأك الى ما أرى
؟ قال :
أسأل الجزية و الحاجة و السن , فأخذ عمر بيده , و ذهب به الى منزله
فأعطاه مما وجده
, ثم أرسل به الى خازن بيت المال , و قال له , أنظر هذا و ضرباءه ,
فوالله ما
أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم , أو نأخذ منه الجزية عند
كبره , قال
تعالى ( انما الصدقات للفقراء و المساكين ) -
التوبة : 60 - و الفقرء هم الفقراء
المسلمون , و هذا من المساكين من أهل الكتاب , ثم وضع الجزية عنه
وعن ضربائه
. و فى رحلته الى دمشق أيضا أمر عمر بن الخطاب بعياله المقعدين من أهل
الذمة من
بيت المال . و بيت مال المسلمين لم يكن أعز عند عمر بن عبد العزيز من ذمى
يسلم , و قد
شكا اليه بعض الولاة افقار بيوت الأموال من اقبال أهل الذمة على الاسلام
ليسقط عنهم
الجزية , فكتب اليهم عمر يلومهم على الشكوى و يقول : ان الله أرسل محمدا هاديا و
لم يبعثه جابيا !! و
لم يكن اقبال أهل الذمة على الاسلام الا لأنه رد اليهم ذواتهم
التى كانوا فقدوها فى الشرك و الوثنية و لو كان الاسلام سلبا للذوات
لظلوا على
عداوته و ما قبلوا دعوته , و لكن المسافة لم تكن بين الذمية و الاسلام فى
كثير من
الأحيان الا مسافة التجربة و الاختلاط , ثم يقبل الذمي على الاسلام مخلصا
موفقا . يذكر
التاريخ - من مواقف الاسلام المشرفة -
أنه
حين فتح أبو عبيدة بن الجراح الشام
, و أخذ الجزية من أهلها الذين كانوا يومئذ ما يزالون على دينهم ,
أشترطوا عليه
أن يحميهم من الروم الذين كانوا يسمونهم الخسف و الاضطهاد , و قبل أبو
عبيدة الشرط
, و لكن هرقل أعد جيشا عظيما لاسترداد الشام من المسلمين , و بلغت
الأنباء أبو
عبيدة , فرد الجزية الى الناس و قال لهم : لقد سمعتم بتجهيز هرقل لنا و
قد اشترطتم
علينا أن نحميكم و انا لا نقدر على ذلك , و نحن لكم على الشرط ان
نصرنا الله
عليهم . (
فتوح البلدان للامام أبى الحسن البلاذرى , و الدعوة الى الاسلام / توماس
أرنولد ) انه حدث فريد فى التاريخ , قائد جيش فاتح منتصر يأخذ الجزية من
أهل البلاد
المفتوحة , ثم يردها اليهم بأى حال من الاحوال , و لم يكن أبو عبيدة
يصنع ذلك
رجاء مصلحة بعيدة يقدرها , و يضحى فى سبيلها بالمصلحة القريبة , كلا فما
كان عنده
يقين بأن ينتصر على جيش هرقل الجرار , و تعبيره واضح جدا ( انا لا نقدر
على ذلك )
, و انما ينطلق من مبدأ الوفاء بالمواثيق , و أخلاق الاسلام , و لذلك
نصرهم الله
, وراح الناس يعيدون الجزية راضية قلوبهم , ثم من بعد صاروا يدخلون فى
دين الله
أفواجا , اعجابا بهذا الدين الذى يُخَرجُ من هو على هذا الدين العظيم
.
ج- د- ما معنى
الصغار الوارد فى الآية ( حتى
يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون ) ؟
معناه هنا التسليم
و القاء السلاح و الخضوع لحكم الدولة الاسلامية و اعترافهم بالوضع
الاسلامى و
الرضوخ له , من باب الآية الكريمة ( و لله
العزة و لرسوله و للمؤمنين(- المنافقون
: 8 - , أى أن يعترفوا بعزة الاسلام و دولة المسلمين . و ينبغى أن
لا يفهم
الصغار هنا بمعنى الهوان و الذلة و الاهانة لهم , أو الزراية عليهم ,
أو الشماتة
فيهم , أو ظلمهم أو ايذائهم , أو التكليف فوق طاقتهم , أو عقوبة لهم ,
فان كل
ذلك لا يتفق و سماحة الاسلام و عظمته و ما عرف من حسن معاملة الرسول و
صحابته لأهل
الذمة . و لو أن المسلمين الأُول فعلوا ما قاله أولئك الذين لم يفهموا
روح الاسلام
, لانفض الناس من حولهم , و لما دخل فى الاسلام هذا الجمع الغفير الذى
لم يدخله
الا عن اقتناع منه برحابة صدره , و سماحة تعاليمه , و عدالته مع أتباعه و
غير أتباعه
, و نظرته الى الكل نظرة بر و عدل و احسان . و من يقرأ بتدبر و امعان
ما كتبه
ابن القيم فى كتابه ( أحكام أهل الذمة ) عن الجزية يرى عظمة الاسلام و
سماحته فى
معاملة الذميين . و قد أورد النهى عن التشديد
على أهل الذمة فى الجزية و الخرج و الحث
على الرفق و اللطف بهم فى كل حال , و أن لا يكلفوا ما لا يطيقون , و أمر
عمر ألا
يكلفوا فوق طاقتهم , و أن لا يلزموا من مال ما لا يطيقونه , و لا يجوز أن
ينادى على
أملاكهم للبيع عوضا عن الجزية و قد
كتب على بن ابى طالب الى بعض عماله :
لا تبيعن
لهم فى خراجهم حمارا و لا بقرة و لا كسوة , شتاء و لا صيفا , و لا
رزقا يأكلونه
, و لا دابة يعملون عليها , و لا تضربن أحدا منهم سوطا واحدا فى درهم ,
و لا
تقمه على رجله فى طلب درهم , و لا تبح لأحد منهم عرضا فى شئ من الخراج ,
فانما أمرنا
أن نأخذ منهم العفو , فان أنت خالفت ما أمرتك به , يأخذك الله به دونى , و
ان بلغنى
عنك خلاف ذلك عزلتك . و
مر عمر فى سفره الى الشام ببعض عماله و هو يعذب الذميين
فى أداء الجزية , فقال : لا تعذب الناس , فان الذين يعذبون الناس فى
الدنيا يعذبهم
الله يوم القيامة .( الخراج لأبى يوسف - بتصرف ) و غير ذلك كثير . فهل
ينبغى بعد
هذا كله - و هذا بعضه - أن يقال : ان الاسلام فرض الجزية على أهل
الكتاب يكرههم
على التحول عن دينهم الى الاسلام , أو أراد اذلالهم , أو ظلمهم ؟؟!!!
سبحانك هذا
بهتان عظيم
اقرا المزيد
زواج الرسول صلى اللـه عليه وسلم من عائشة أم المؤمنين
اقرا المزيد
زواج الرسول صلى اللـه عليه وسلم من عائشة أم المؤمنين
***********************
***********************
إرسال تعليق
تواصل معنا فى رسائل الصفحة